الهجرة العربية الى الأرجنتين


 
الهجرة العربية الى الأرجنتين

ان أحدا لا يهجر أرضه وعائلته وأصدقاءه الى الأبد
حبا بالمغامرة او الهجرة من أجل الهجرة   فقط لا غير  .

ان الهجرة العربية الى امريكا ومنها خاصة الى الأرجنتين كانت قد بدأت حوالي عام 1850  .

اما  الهجرة الجماعية فكانت في نهاية القرن التاسع عشر ، حيث بدأت  في ذلك الوقت  أولى مراحل الضغط على المسيحيين الذين كانوا يتواجدون تحت حكم الامبرطورية العثمانية وعلى رأسها السلطان عبد الحميد الثاني، لهذا لا غرابة في أن  يكون أغلب المهاجرين آنذاك  من المسيحيين بمختلف مذاهبهم وقد أتوا  خاصة من سوريا ولبنان وفلسطين . ويصل المهاجرون الى عالم جديد غريب  وبعيد ، يختلف عليهم  من كافة  الوجوه  ( لغة وعادات  وطعاما وغير ذلك ) وكانوا يفتقرون الى ثقافة ملائمة ثم لا  مال  يحملونه فيسمح لهم بالعيش الهنيء  ، وقد جاء بعضهم عازما على أن يبقى في المهجر سنوات فقط ، يجمع  خلالها ما يتيسر له من مال، ثم يعود الى وطنه البعيد حيث ظل قلبه عالقا هناك وقد ترك  العائلة والأهل والأصدقاء ،  ولكن الواقع   كان شيئا آخر.  ان مرور الزمن  ربط     اولئك المهاجرين   في بلاد  الاغتراب ، لقد  تزوجوا   من فتيات  لا يتكلمن لغتهم ولا يعرفن شيئا من عاداتهم  وتقاليدهم ، حتى اذا ما رزقوا بالأولاد ، هجروا فكرة  العودة وصمموا على البقاء نهائيا في بلاد الهجر. لقد نجح البعض منهم  اقتصاديا في هذا العالم الجديد وقد ساعدهم على ذلك طيب عنصر  وشرف  نفس وصدق في المعاملة  ،  فاستقروا  اجتماعيا ، وتخلى البعض منهم  عن الدين الذي كانوا قد نشؤوا وشبوا عليه .
ان الذين وصلوا الى هذه الأرض  كانوا فتيانا ،  وقد اختاروا الهجرة تحت دوافع  كثيرة أهمها الفقر ، ثم  الهرب من الجندية  التي كانت تفرضها عليهم  الامبرطورية العثمانية  ، أما السبب الأخير فكان الاغراء الصادر عن الأهل والأصدقاء  الذين كانوا قد سبقوهم الى بلاد المهجر ،  فأرادوا أن يلحقوا بهؤلاء وأن يشاركوهم الحلم  في "  صنع  امريكا " .



ولكن ما أن وصل هؤلاء الى هذه الأرض حتى فاجأتهم  المصاعب التي لم يكونوا يحسبون لهاحسابا ، أما النساء منهم خاصة فكنّ أكثر عرضة  للتمييز من قبل المجتمع المهيمن  وقد جئن من عالم كنّ يعانين فيه من ضغط الرجل وسيطرته. هذا هو الجو والمفهوم  الذي  كان يسيطر على  تلك  الحقبة من الزمن ، وكانت الصحافة هي التي تعمل على ابراز كل هذا واعلانه   .
ولا بد من الاشارة بأن اغلب المهاجرين جاؤوا عّزابا غير متزوجين في الوقت الذي لم يكن يتواجد فيه ببلاد المهجر نساء  عربيات من المجتم الذي جاؤوا منه   بامكانهم أن  يتفقوا  معهن   لغة وعادات ويجعلوا منهن  رفيقات  درب  . وهذا ما جعل كثيرين من الشبان المهاجرين   يرسلون  في طلب فتيات من البلدة او القرية التي كانوا يقطنون فيها قبل الرحيل  ليتخذوا منهن زوجات ، وكان كل هذا  يجري  دون سابق معرفة  بين الشاب  والفتاة ، وكثيرا  ما كان التعارف بين الاثنين  يحدث على  المرفأ وفي اللحظة التي تهبط فيها الفتاة  من الباخرة لا قبل .  وتزوج البعض الآخر مع ارجنتينيات من مواليد هذه البلاد وممن لا تربطهن بالجالية العربية أية صلة أو  علاقة .
أما الهجرة فكانت على موجات ، وكان   بعضها يتم  بتشجيع من الحكومة الأرجنتينية عن طريق مختلف سفاراتها في الخارج . ففي ايطاليا مثلا كانت  الأحاديث تكثر عن ثروات الأرجنتين وعن غناها المادي مما دفع باللبنانيين الذين كانوا يتواجدون في اوروبا أن يكتبوا الى مواطنيهم القاطنين  في الأرجنتين  كي يساعدوهم على السفر الى  هذه البلاد . وكان المهاجرون  حتى عام 1918  يأتون
بجوازات سفر تركية  ثم بعد ذلك  وعلى أثر خروج تركيا من البلاد العربية   أصبحوا يسافرون  بجوازات سفر سورية أو لبنانية وأحيانا بجوازات سفر حلبية  تقدمها الدولة الفرنسية التي كانت منتدبة آنذاك على تلك البلدان . ومما يجدر ذكره بان السفارة التركية في بوينوس ايرس لم تكن تعترف بالعرب كمواطنين لها خاصة   اذا كانوا مسيحيين  .
وكانت  الهجرة السورية اللبنانية تتجه نحو المحيط الأطلسي أي البرازيل والأرجنتين والارغواي اما الفلسطينيون فكانوا يهاجرون غالبا الى البلدان الواقعة على المحيط الهادي ومنها خاصة تشيلي .



ان  اختيار بلد الهجرة كان يتأثر بالاتصالات التي تجري مع  الأصدقاء والأقرباء  
المهاجرين . ثم ان كثيرين ممن هاجروا الى الأرجنتين قبعوا   في مدينة بوينوس ايرس وضواحيها ، بينما توجه آخرون الى شمال البلاد (توكومان وسانتياغو دل استيرو) ،  وذهبت قلة منهم الى مناطق أخرى من شمال  الأ رجنتين أما  الذين قصدوا بتاغونيا  في الجنوب فكان عددهم  قليلا جدا.
لقد سجلت الهجرة العربية في الأرجنتين  علامة فارقة  فأصبح من الصعب ان تجد قرية مهما بعدت  تخلو  من متحدرين من أصل عربي .
ان  أول عمل قام  به المهاجرون لكسب العيش كان  البيع بالكشة وقد  ترك  هذا عنهم نكتة  ما زال الناس حتى ابناء الجالية يرددونها  للتفكهة وهي " Peine , Peineta " وهذه الجملة كان ينادي بها أصحاب الكشة على بضاعتهم عند أبواب البيوت كي تسمعهم  النساء فيشترين منهم ، و( بينيه ) تعني مشط و( بينيتا) تعني المشط  التي تزين به النساء شعرهن   وكان أصحاب الكشة يلفظون (p) الافرنجية (b) عربية ،وهو بالنسة للأجنبي شيء يسترعي الضحك .   ولكن الطموح الذي تحلى به  هؤلاء المهاجرون  حّولهم من بائعي كشة الى أصحاب حوانيت من تلك التي تضم مختلف الأصناف  ليشقوا فيما بعد طريقهم الى الأمام . اما الزوجات فكن الساعد الأيمن لأزواجهن المهاجرين سواء أكان هذا في مخازنهم  التجارية او عن طريق توفير حياة طيبة داخل  البيت .
 هذا ما كان في الماضي أما الآن  فان المرأة المنحدرة من أصل عربي انما تقوم بدور هام ضمن المجتمع الأرجنتيني سواء كان عن طريق اشتراكها في الجمعيات الخيرية أوالثقافية ، ومن هذه الجمعيات نستطيع أن نذكر المستشفى السوري اللبناني الذي أسسته الجالية السورية اللبنانية وهو الآن  يرتفع  صرحا  شامخا في هذا البلد ، او عن طريق قيامهن   بمختلف الأعمال المهنية .  
وانقسم الجيل الأول من أبناء المهاجرين الى قسمين ، قسم  سار  على خطى أبيه   في التجارة ، وقسم اختار النشاط المهني ،وهكذا نرى أن  كثيرا من المتحدرين من أصل عربي قد أصبحوا الآن  أطباء ومحامين  الى غير ذلك من المهن ... كما انهم برزوا في  حقل السياسة حتى ان أحدهم توصل ان يكون رئيسا للدولة الأرجنتينية.   


ولكن  مما يؤسف له ، هو ان انصراف المهاجرين الأوائل الى أعمالهم الاقتصادية جعلهم يهملون تعليم أولادهم لغتهم الأم ، اللغة العربية ، فلم ينشؤوا المدارس التي تعلم  هذه اللغة الى جانب الاسبانية لغة البلاد باستثناء بعض الحالات القليلة ، وهكذا فان الجيل الثاني والثالث من أولاد المغتربين غدا يجهل اللغة العربية لغة أبويه واسلافه،   ولكن من دواعي الاطمئنان هو  أن  الوضع قد تغير في الوقت الحاضر وانقلب على نفسه خاصة في بوينوس ايرس ، فقد أخذت مؤسسات عديدة من اسلامية وغير اسلامية تدرس اللغة العربية لغير الناطقين بها من الأرجنتنيين المتحدرين من أصل عربي والذين يعدون  من الجيل الثالث ، كما يقبل  عليها  الأرجنتينيون من  أبناء هذه البلاد  .
وشهد عام 1920  اقامة العديد من النوادي  والجمعيات العربية على امتداد الأرجنتين بعضها ما زال قائما حتى وقتنا الحاضر ، كما تم تأسيس الكنائس التي تعود الى مختلف الطوائف المسيحية وأقيمت المساجد الاسلامية والبيع اليهودية  ومن الكنائس المسيحية نستطيع ان نذكر :
الكنيسة الاورثوذكسية الانطاكية
والكنيسة الكاثوليكية المارونية
والكنيسة السريانية الأورثوذكسية
ان الكنيسة الاورثوذكسية الانطاكية ينتمي اليها  أغلب المهاجرين   وتتمثل  في بوينوس ايرس بكاتدرائية القديس جوارجيوس ، و تضم مركزا  للمطرانية الأورثوذكسية في جمهورية الأرجنتين .
واهتمت الجالية الاورثوذكسية بالمحافظة على التقاليد المسيحية الشرقية .
أما الكنيسة المارونية فتقع في قلب العاصمة بوينوس أيرس وهي المركز الديني الرئيسي للطائفة المارونية في الارجنتين .
واخيرا الكنيسة السريانية الاورثوذكسية وهي تمثل مجموعة صغيرة من العرب المسيحيين ، وكان أبناء هذه الطائفة قد اعتنقوا المسيحية  في القرن الأول بعد الميلاد ، أما في الأرجنتين فقد قطنوا  بمدينة لا بلاتا التي تبعد عن بوينوس ايرس مسافة 60 كيلو مترا و في تلك المدينة  يقيم مطران السريان حيث يمثل بطركية السريان  في الأرجنتين . و يقطن السريان أيضا  في مدينتي كوردوبا وسانتياغو دل استيرو . ان ما يميز هذه الطائفة هو تعدد  الأماكن اتي هاجروا منها،  فبينما نرى بان سكان كوردوبا وسانتياغو دل استيرو هم من مهاجري مدينة حمص ، نجد أن الذين يقطنون في مدينة لابلاتا قد أ توا من كردستان التركية وخاصة من مدينة مردين وديار بكر .


وبنى   العرب المسلمون الذين قطنوا الأرجنتين أول مسجد لهم في مدينة بوينوس ايرس هو جامع  الأحمد ، ثم بنوا مسجد التوحيد وأخيرا ومنذ قليل أقامت المملكة السعودية  مسجد حامي الحرمين  الشريفين الملك فهد ،في بناية فخمة وفي قلب حي باليرمو ،كما بنى اليهود العرب  البيع في مدينة بوينوس أيرس ومنها حي براكا س والاونسيه وباليرمو وفي أماكن أخرى من البلاد .
وظهرت في الأرجنتين الصحف التي كانت تنشر باللغتين الاسبانية  والعربية ، وأقيمت المطاعم العربية ،أولا  في مدينة بوينوس أيرس ، ثم في مدن أرجنتينية أخرى ومنها خاصة روساريو وكوردوبا ومندوسا . لقد أصبح  الطعام العربي اليوم  طبقا يلذ  للأرجنتينيين فيطلبونه ويقدمون عليه بشهية  ومن هذه الأطباق الصفيحة  والكبة والبقلاوة والخبز العربي .
وفي مدينة بوينوس أيرس أقام  كثير من التجار السوريين واللبنانيين  مخازنهم التجارية في شارع ريكونكيستا وهذا ما دفع بهم الى نشر أول مجلة لهم   باسم       "كاراس  وكاريتاس " اي وجوه وأقنعة ، وانحصرت تلك المحلات  بشارعي تشاركاس وكوردوبا ، وقد أخذ الأرجنتينيون يطلقون على أصحابها اسم توركو . أما السوريون الذين أتوا  من مدينة حلب وأتى معهم يهود من تلك المدينة  فكانت محلاتهم التجارية تتواجد في  حي الأونسيه وفي شارع كانينغ المسمى الآن بشارع اسكالابريني أورتيس Escalabrini Ortiz .
وفي  العقد 1930 بدأت تقل الهجرة الى هذه البلاد حتى انقطعت عام 1950 وانطلاقا من هذا التاريخ أخذت  الهجرة تتجدد من قبل  الفلسطنيين نتيجة للكارثة التي ما زال يعيشها الفلسطينيون ، وكانت وجهة هؤلاء  البرازبل وكندا .
وفي عام 2006 أصبح عدد المتحدرين من أصل عربي في الأرجنتين يقدربثلاثة ملايين  نسمة وهو  عدد هام   بالنسبة لعدد سكان الارجنتين .
 والآن وعلى هذه الأرض نعيش نحن  المتحدرين من اولئك الذين  جاوؤا الى هذه البلاد وحقائبهم ملأى بالآمال  وبالذكريات والحنين الى الأرض التي شاهدتهم
يلدون فيها وينمون .

                                                ربيع عام 2006
                                                           الدكتور خورخي                                                                                    
                                                           بوينوس أيرس – الأرجنتين